إذا كان ثمة مكون رئيس لأية حضارة إنسانية فذلك المكون هو منظومة التشريعات والقوانين التي تنظم حركة المجتمع وتُسيّر شؤونه، وتدير دفة استمرار ونمو الحياة فيه.
قيل إن القوانين مرآة الواقع وهو قول يُحمل على وجوه عدة، فهو يدل من جهة على أن القانون يعكس واقع الحياة في المجتمع، وما إذا كان المجتمع متقدماً أم لا. فالحضارات التي عرفت بعراقتها، كانت تشريعاتها على ذات القدر من العراقة والتقدم والرقي. والعكس بالعكس. ومن ناحية أخرى، يقصد بهذه العبارة ضرورة أن يواكب القانون المستجدات التي تطرأ على المجتمع، بحيث يعكس أحوال الجماعة التي ينظم العلاقات بين أفرادها.
لقد وصلت «الثورة الصناعية الثالثة»، وهي ثورة الحوسبة الرقمية، التي انطلقت في خمسينات القرن الماضي، إلى ذروتها وتطبيقاتها في التكنولوجيا الحيوية وثلاثية الأبعاد والثورة الحاصلة في مجال مواقع التواصل الاجتماعي والعالم الرقمي.
واليوم يتحدث العالم عن «الثورة الصناعية الرابعة»، التي تعتبر طفرة التقدم التكنولوجي، الذي بيده تغيير الكثير من تفاصيل الحياة البشرية، وتتميز بالاعتماد على الروبوت في العديد من مجالات الحياة وتقليل الاعتماد على العنصر البشري. وإزاء هذا التطور، كان لابد من تطوير معظم القوانين والتشريعات، بحيث تتواكب مع هذا الواقع الجديد.
ولقد خاضت دول كبرى تجارب جديرة بالذكر حيث نجح برنامج الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بنتيجة مئات القضايا التي عُرضت على المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان؛ وبحسب العلماء فإن دقة البرنامج في التنبؤ بالأحكام بلغت 79 في المائة.
وفي الصين تم بالفعل اعتماد استخدام الذكاء الاصطناعي في محكمة شنغهاي من خلال مشروع رُمز له بـ «206» وهذا المشروع عبارة عن نظام ذكي يساعد في إجراء التحقيقات الجنائية.
وفي أميركا أعلن علماء من جامعة جورج تاون في واشنطن، أن إدخال الشبكات العصبية الاصطناعية إلى المحاكم سيؤدي إلى تسريع الحكم في القضايا الجنائية، ولن يؤثر على عدالة القرار بالحكم على المتهمين، لأن هذه الشبكات الاصطناعية ستأخذ بعين الاعتبار جميع الظروف التي تُرصد في جلسات الاستماع الأولية، بدءاً من هوية المشتبه بهم، وصولاً إلى ماضيهم الجنائي إن وجد.
وأما عربياً فإن الريادة كما يبدو بوضوح في هذا المضمار تحتلها دولة الإمارات العربية المتحدة حيث تتوسع أعمالها كل يوم أكثر من ذي قبل في هذا المجال وبشكل مدهش جداً. ووفقاً لإحصاءات نتائج عمل القضاة في المحاكم المدنية فقد ظهر أن كافة القضاة حققوا نتائج أكثر من المطلوب منهم، حيث كان المطلوب من كل قاضٍ في الدائرة الجزئية الفصل في 550 قضية سنوياً، وبمعدل دقة أحكام عالية، بينما في الدائرة الكلية كان مطلوباً من كل قاضٍ الفصل في 300 قضية.
وبالنظر إلى جدوى تطبيق القضاء الذكي في حياتنا سنجد أن برنامج الملف الذكي سيعمل على تسهيل المعاملات، والوصول إلى البيانات، ويمنع تراكم القضايا والملفات، كما يوفر العديد من المزايا التي تشمل السرعة في إنجاز العمل وتوفير الوقت والجهد، وتوفير الأمان للمستندات وإنجاز العمل في أي وقت ومن أي مكان.
كما أن تطبيق الملف الذكي يجني العديد من الامتيازات للتسهيل على المتعاملين من حيث تسجيل القضية وسداد الرسوم، والإعلان ومتابعة الجلسات والمشاركة فيها من المكان المتواجد فيه الشخص، فيما يقدم للمحامين خدمة كبيرة تريحهم من التنقل بين مباني وقاعات المحاكم، بحيث يكون بمقدوره متابعة كافة قضاياه الموكل فيها والمشاركة في اللحظة ذاتها حسب الوقت المخصص للنظر فيها في مختلف المحاكم من مكان وجوده.
كذلك فإن مسألة إعلام الخصوم هي الأخرى تشهد مع تطبيق الملف الذكي تطوراً كبيراً، حيث يتم ذلك عبر البريد الإلكتروني وبرنامج «واتس أب» وأي برامج اتصال تقني، عدا عن أن الملف يتيح للمتعاملين إنجاز العديد من إجراءات التقاضي بكل سهولة ويسر.
كل ذلك وأكثر يرفع مؤشر إنتاجية القضاء إلى أعلى حد.
وقياساً على ما سبق فإن هذه التجارب بنتائجها تثير سيلاً طويلاً من الأسئلة لعل أهمها: كيف سيكون شكل هيئة القضاة بمحاكم المستقبل؟ وهل يمكن اختراع قضاة «افتراضيين» لا تحكمهم أهواء ونوازع البشر التي تؤثر في الأحكام القضائية؟ وكيف سيستمع القاضي الافتراضي إلى الدفاع عن المتهمين؟ وكيف يمثل المتهمون المدانون البشر لأحكام تكنولوجية مهما كانت درجة ذكائها؟ وهل سيكون القاضي الذكي مؤهلاً لنظر كل القضايا على اختلافها، أم سيذهب «الذكاء الصناعي بعيداً» لاختراع قضاة بحسب أنواع الجرائم ودرجات التقاضي؟!.
وللحديث بقية.