تميز بعض الأدبيات الحديثة في علم الاقتصاد، في سياق البحث عن جدوى محو الأمية عن طريق الوصول إلى شخص متعلم في الأسرة، بين «الأميين القريبين» و«الأمية المعزولة». تشير الأولى إلى شخص أمي يعيش في أسرة مع أدباء، والأخير إلى أمي يعيش في أسرة من جميع الأميين.
وكانت المعضلة التي واجهت علماء الاقتصاد عموماً انطلاقاً من تلك الأدبيات أن العديد من الناس في الدول الفقيرة ليسوا مجرد أميين بل أميين منعزلين. انعكس ذلك بجلاء في تعريف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) لمحو الأمية من أنها «القدرة على تحديد وفهم وتفسير وإنشاء وإخراج وحساب، باستخدام المواد المطبوعة والمكتوبة المرتبطة بسياقات مختلفة.
ينطوي محو الأمية على استمرارية التعلم في تمكين الأفراد لتحقيق أهدافهم، لتطوير معارفهم وإمكاناتهم، والمشاركة الكاملة في مجتمعهم والمجتمع الأوسع». وقد جادل البعض منذ الثمانينات من القرن الماضي، بأن معرفة القراءة والكتابة هي أيديولوجية، مما يعني أن معرفة القراءة والكتابة موجودة دائمًا في سياق، جنبًا إلى جنب مع القيم المرتبطة بهذا السياق.
ومنذ 1990، دار جدل آخر حول ضرورة توسيع معنى الأمية وما يعنيه محو الأمية خصوصا بعد مجيء الإنترنت واتساع رقعة استخدامه في العالم، وقد أكد البعض أن تعريف محو الأمية ينبغي أن يتضمن القدرة على استخدام أدوات مثل متصفحات الويب، معالجة النصوص برامج، والرسائل النصية.
وقد سميت مجموعات المهارات الموسعة المماثلة محو الأمية الحاسوبية، ومحو الأمية المعلوماتية، ومحو الأمية التكنولوجية. كما ويقترح بعض العلماء فكرة تعدد اللغات التي تشمل محو الأمية الوظيفية، ومحو الأمية النقدية، ومعرفة القراءة والكتابة البلاغية.
تطورت تلك الأفكار حتى عام 2009 حين أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما، أن شهر أكتوبر 2009 هو الشهر الوطني لمحو الأمية المعلوماتية.
وذكر إعلان الرئيس أوباما أنه «بدلاً من مجرد امتلاك البيانات، فإن علينا أيضاً أن نتعلم هذه المهارات اللازمة للحصول على المعلومات، ومقارنتها، وتقييمها. فعلى الرغم من أننا قد نعرف كيف نجد المعلومة التي نحتاجها، إلا أننا يجب أن نعرف أيضاً كيف نقيمها».
وينتهي إعلانه بقوله: «إنني أدعو شعب الولايات المتحدة ليتذكروا أهمية الدور الذي تلعبه المعلومات في حياتنا اليومية، وإلى تقدير مدى الحاجة لزيادة فهم تأثيرها».
ويمكن تقديم تعريف موجز لمحو أمية التكنولوجيا المعلوماتية، يتلخص في إمكانية التشغيل والتواصل مع الأجهزة التكنولوجية المعلوماتية كالحاسبات والفيديو..الخ. واستيعاب وفهم بقية تشكيل النظم الفرعية للنظم أو الشبكات.
واستيعاب وفهم الوثائق المتعلقة بالبرامج وكيفية استخدامها. واستيعاب وفهم مصطلحات تكنولوجيا المعلومات مثل مصطلحRam /Rom الذاكرة الخارجية External Memory على اعتبار أنها وحدة اختزان خارجية للحاسب الآلي مثل الشرائط أو الأسطوانات الممغنطة.
وإمكانية حل المشكلات باستخدام تكنولوجيا المعلومات. وكيفية تحديد واستخدام المصادر البديلة للمعلومات. ومناقشة تاريخ ومستقبل تكنولوجيا المعلومات. وأن يكون لديه قدراً من بعد النظر، بالنسبة لتأثير تكنولوجيا المعلومات على القضايا الأخلاقية والإنسانية.
بعد هذا كان لا بد من أعراض كثيرة ظهرت مع اتساع رقعة التكنولوجيا خصوصاً في الدول النامية تشبه أن تعطي مريضاً حقنة أنسولين لتنقذه من السكر وهو يعاني من حساسية جلدية قاتلة، ولنفهم الأمر أكثر سنجد تلوثاً معلوماتياً هائلاً وتلوثاً فكرياً يجب التخلص منهما أولاً قبل التفكير في الدخول إلى عصر المعرفة أو بكلمة أدق إلى العصر الذي يعتمد في اقتصاده على المعرفة بمعناها الأوسع.
ثم سنجد أعراضاً كثيرة أخرى قد تسللت مع عملية نقل التكنولوجيا إلى البلاد العربية وصاحبتها نتيجة لقلة الوعي وانعدام التثقيف والتوعية بذلك منها الإدمان الإلكتروني ومنها المظهر الالكتروني ومنها السعادة الإلكترونية ومنها المجتمع الإلكتروني.
وهناك ما هو أكثر من كل ذلك وجميعها تشكل عائقاً كبيراً بين الفرد وبين الانشغال بتلقي المعرفة وهو ما أكدت عليه بالضرورة كل التعاريف التي تناولت موضوع الأمية التكنولوجية ومحوها وبمعنى أوضح يمكننا القول إن الأمية التكنولوجية يمكن تجاوزها في الدول الفقيرة لكن لا جدوى من ذلك إذا لم يُفهم من تلك العملية أنها من أجل استخدام التكنولوجيا في سبيل اكتساب المعرفة والاستمرار في مشوار العلم والتعلم وأن التكنولوجيا ليست سوى أداة فقط لتسهيل عملية التواصل مع العالم والاستفادة من معارف وخبرات الآخرين وتجاربهم وليست التكنولوجيا غاية في ذاتها كما يفهمها الكثير توهماً وخطأً.
عدا ذلك تواجه الكثير من الدول النامية العديد من التحديات تتمثل في القضاء على الأمية التقليدية من جهة، والأميتين المعلوماتية والمعرفية من جهة أخرى، وهذا يتطلب بناء بيئة معرفية تلخصها الحكمة المعاصرة التي تقول: «المعرفة لا تُمنح من قبل المعلم، بل تُصنع بواسطة المتعلم».
هذه البيئة يجب أن تسهل وتشجع الفرد على اكتساب مهارات التعلم والتدرب الذاتي المستدام مدى الحياة، مع التركيز على مراجعة ما تم تعلمه سابقاً ومعاودة التعلم.
يقول المفكر الأميركي ألفين توفلر «الأميون في القرن الحادي والعشرين ليسوا أولئك الذين لا يستطيعون القراءة والكتابة، بل أولئك الذين لا يستطيعون التعلم، ونقض ما تعلموه، ومعاودة التعلم من جديد»، وسبقه إلى هذا المفهوم قبل أكثر من ألف عام المفكر العربي محمد بن عبد الجبار بن حسن النفري، بقوله «العلمُ المستقر، جَهْلٌ مستقر».
ولا ننسى ضرورة تغيير الدور التقليدي للجامعات، ليس فقط على صعيد البحث العلمي، بل على صعيد الابتكار أيضا. ففيما يؤدي البحث العلمي إلى توليد معرفة جديدة، فإن الابتكار يؤدي إلى إنتاج سلع وخدمات جديدة مبنية على تلك المعرفة. وللحديث بقية.