إذا كان الاقتصاد هو العامل الأساسي في تشكيل الحياة، فإن الحفاظ على الريادة وإدامة النمو والازدهار، وفق مقولة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، يتطلبان الانتقال إلى عصر اقتصاد المعرفة وبأسرع ما يمكن.
وبالفعل فلا تكاد لحظة تمر دون أن تتعزز تلك الخطى الحثيثة تطوراً وترسخاً نحو هذا الاقتصاد الجديد المبني على المعرفة وأسسها وهو «اقتصاد المعرفة» (knowledge economy)، ويبدو بوضوح أن هذا التطوَّر يتعاظم متساوقاً مع إيقاعات دقات القلب دقةً وسرعة، وعلى نطاق واسع، وفيه من الخصائص ما يتصدى بها للاقتصاد الصناعي التقليدي، بمعنى أنه يفرض على الاقتصاد عموماً، مهمات جديدة، منها الدراسة والتحليل لهذه التحولات العظيمة، وصناعة المقاربات للتحديات الناجمة عن تفاعل مجتمعات المعرفة معه بموضوعية.
إن المعرفة بتشعباتها وتعددها وسرعة تحولاتها وتبدلاتها، هي المحرك الديناميكي النشط والفاعل في هذا الاقتصاد القائم على المعرفة، وبالمقابل، فإنها تستدعي حشد المهارات البشرية العالية لتغطية احتياجاتها، وترجمة تفاعلاتها وما يدور في فلك مفاعيلها.
وبهذا التوجه الجديد للاقتصاد أصبح 75 في المئة من الرأسمال البشري العامل في حقل الاقتصادات المتقدمة، هم من يعول عليهم في استخدام عقولهم ومخيلاتهم اليقظة، أكثر من استخدامهم لأيديهم وعضلاتهم؛ ليكون الناتج من ذلك أن يكون أمر الحل والعقد كامن في تلك القدرة على التحكم في مستقبل إنتاج الثورة التقنية، وصيرورتها بدءاً من جهود البحث والتطوير، مروراً بالابتكار والتصميم والاكتشاف والاختراع، وانتهاء بالإنتاج والإنتاجية العالية، تماماً كما كل تجربة مع المعرفة التي تمر بمراحل ثلاث، الأولى اكتسابها والثانية نقد المعرفة والثالثة إنتاج المعرفة وإبداعها؛ وهي من تتولى عملية التحوّل والتغيير باتجاه التأسيس لمجتمع المعرفة المطلوب، ذلك أن الاقتصاد القائم على المعرفة، يمثل شرطاً للتحوّل إلى مجتمع معرفي متجدد ودائم.
إن عملية توليد المعرفة هي المرادف لمفهوم «مجتمعات المعرفة» إذ إن المجتمع يقوم بنشرها ويستثمرها لتحسين مستوى الإنتاجية والمعيشة ونوعية الحياة لمواطنيه بشكل متجدد ومستمر. إن المجتمع العاطل عن المعرفة كالنار التي لا تضيء ولأجل ذلك يتضمن التحول إلى «مجتمع المعرفة» أبعاداً اجتماعية وثقافية واقتصادية ومؤسسية شاملة، وعليه فالمعرفة في هذا السياق تشمل معارف شتى وفي كل المجالات والقطاعات بلا استثناء.
ومع ذلك فإن الأكثر أهمية من التحول نحو اقتصاد المعرفة ليس اقتصاد المعرفة بحد ذاته بل هو التحول إلى مجتمع المعرفة؛ لأن الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية سيؤدي إلى طفرة عظيمة للاقتصاد القائم على المعرفة، فالاهتمام بالمجتمع المعرفي يعزز من منظومة اللامتغيرات البنيوية في أي مجتمع، وهذا بالضبط ما يعمل على التوازن في كل البنيات الأساسية في المجتمع.
إن ما يبدو بوضوح تجاه هذا التحول المفترض نحو اقتصاد المعرفة وتنمية مجتمع المعرفة هو تلك التحديات التي تواجه دولاً كثيرة، والعربية أهمها، في عملية بنائها لمجتمعاتها المعرفية، منها التعليم ونشر المعرفة إذ إن الوصول إلى اقتصاد قائم على المعرفة يتطلب تطوير منظومة التعليم في مختلف مراحلها، بدءاً من الطفولة المبكرة وانتهاءً بالتعليم ما بعد الجامعي، الذي بدوره يتطلب توسعاً واهتماماً أكبر، من خلال تنفيذ برامج وطنية تهتم بإعداد المعلمين، وتوفير المعامل والمختبرات اللازمة لتكوين المهارات العلمية والعملية، إضافة إلى وجود بنية تحتية للمعلومات والاتصالات في مجال التعليم.
كذلك أيضاً فإن التوجه نحو المعرفة يتجسد فيما يسمى بالمحتوى المعرفي، وهو الذي يمثل أحد الأصول غير المادية في الاقتصاد، وبهذا الصدد تبرز بعض التحديات، منها ما يتعلق بالمحتوى المعرفي في كل من المنتجات والخدمات، والصادرات والواردات، وفي الشكل الرقمي على الإنترنت؛ كما يرتبط نقل المحتوى المعرفي وأهمية حضوره بقضيتي توفير الكوادر والاستفادة من التعاون الدولي.
كما ويتمّ إنتاج المعرفة أيضاً من خلال ثلاثة أنشطة هي البحث العلمي، التطوير التقني، والابتكار؛ وهي أنشطة يتوجب مضاعفتها في جميع القطاعات، على أن تتوافق مخرجاتها مع متطلبات الاقتصاد الوطني، ويتطلب ذلك مواجهة العديد من التحديات، أبرزها تكثيف الجهود الخاصة ببناء القدرات الضرورية لاستيعاب المعرفة والعمل على حضورها، وزيادة حجم موارد البحث والتطوير والابتكارات المادية والبشرية، والتوسع في البحوث التطبيقية، وفي الابتكار والاهتمام بالمعارف.
كما ويُعد التعليم والتدريب والبحث والتطوير تحويلاً للثروة إلى معرفة، وهنا يبرز التحدي لتحقيق ذلك متمثلاً في دعم الاستثمار وزيادته للأنشطة المعرفية لدى القطاعين العام والخاص، وتنمية الموهبة والإبداع وزيادة برامجها.
وهناك إدارة المعرفة المتضمنة مجموعة من التحديات التي ينبغي التصدي لها، ومنها رسم خارطة طريق بالتنسيق بين الجهات ذات العلاقة، وتبني نظم إدارة المعرفة، وتوفير حِزم متنوعة من الحوافز للاستثمار في الأنشطة ذات الصلة بالمعرفة، وتطبيق معايير الجودة بغرض الارتقاء بجودة العمل، واعتماد مؤشرات رقمية لقياس التقدم المنجز.
ويتطلب التوجه نحو الاقتصاد القائم على المعرفة أيضاً تعزيز اهتمام المواطن بالمعرفة ومصادرها، فضلاً عن زيادة الوعي بأهمية العمل الجماعي وسيادة روح الفريق، إذ من دون ذلك سيكون من الصعب إنتاج المعرفـة الحديثة.
إن أهم ما يجب التحضر له واستيعابه هو أن التطور التكنولوجي يأتي متلازماً مع التوجه نحو الاقتصاد القائم على المعرفة، وهنا لا بد أن أشير إلى أن ما يمكن أن توفره التكنولوجيا من تطبيقات ذكاء اصطناعي وإمكانيات تكنولوجية، ووظائف غير اعتيادية، والتي يظهر وجهها الإيجابي في كونها توفر مناخاً مناسباً، وتهيئ الجو للإبداع البشري، فالمؤسسات التي تستغني عن وظائف البشر بتطبيقات وأجهزة ذكاء اصطناعي -مثلاً- يكون في حساباتها بذلك ما تحتاجه المؤسسة بالفعل من دراسات وابتكارات إبداعية ترتقي بالعمل المؤسسي، وهي مهمة يقوم بها كل موظف ضمن فريق ينتمي إليه، بمعنى أن الوعي لا بد أن يكون حاضراً لدى المؤسسات بأن الوظائف غير الاعتيادية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تستخدمها هذه المؤسسات، ليس سوى منحة تفرغ للموظفين في تلك المؤسسات للتقدم بأدائها إلى الأفضل، من خلال ما يتم إنجازه من دراسات وتنشيطه من برامج تنجزها إدارات المؤسسات. وللحديث بقية.