الحديث عن عصر ما بعد الذكاء الاصطناعي أو الثورة الاقتصادية الخامسة هو مجازفة لا تختلف عن أي حالات استشراف وتنبؤ بالمستقبل؛ ولذا لا بد من اتباع الطريقة العلمية والمنطقية المفترضة في أي عملية استشراف وتنبؤ.
إن الطريقة العلمية والمنطقية للاستشراف والتنبؤ تفترض القياس من خلال المعطيات والمقارنة بالضرورة بين ملامح التغيير بين عصرين والحديث هنا عن عصور الاقتصاد كنموذج ثم طرح التوقعات لما يمكن أن يكون عليه العصر الذي نستشرف لما يمكن أن يكون عليه قياسا على نتائج المقارنة السابقة واعتماداً على موهبة العقل في الربط والتحليل والاستنتاج.
وسنجد بدءاً أن عصر الشركات والمكاتب ثالث عصور الاقتصاد في التاريخ قد اضطر العالم إلى البحث عن حلول بديلة لآلياته لم تكن بمعزل عن تراكمات الفشل التي انتهت بها العصور الاقتصادية التي سبقتها بل تمثل في مجموعها سبباً كافياً ليؤدي إلى كارثة اقتصادية عالمية سببت خسائر جسيمة لجميع القطاعات الاقتصادية وأسواقها المالية.
وبالمقارنة مع العصر السابق لاقتصاد المكاتب والشركات لم تختلف ملامح هذا الفساد كثيراً عن سياقات عصر اقتصاد الشركات وما يفرض ذلك هو التشابه في الأدوات والوسائل التقليدية واللوائح حتى لو كان النظام مختلفاً عما تلاه من نظام أي هو انتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية لكن وطالما أن اللوائح والوسائل والأدوات واحدة فلن يمثل هذا التحول في الشكل التقريبي أكثر من مجرد قيام ناشر بتغيير غلاف كتاب ما دون أي تغيير في المحتوى ومن ثم إنتاجه من جديد.
لكن ثمة ما هو جوهري وأكثر عمقاً في الأمر من هذه الأسباب وهو ما يشترك فيه بالضرورة عصر الثورة الاقتصادية الرابعة ويسمى عصر المعرفة وحتى لو تغيرت لوائحه وموارده وأدواته وتميزت كلياً عما سبق بدعوى الخوف من العواقب الوخيمة التي آل إليها العالم نتيجة لسياسات الأنظمة الاقتصادية السابقة، وأدت إلى انهيارات وخسائر جسيمة، وذلك العمق هو الهدف العميق أو الأعمق لأي نظام اقتصادي مهما اختلفت أدواته ومظاهره وتميزت موارده، وذلك الهدف هو تحقيق مبدأ المساواة والقضاء على الفقر.
وهذا منطقي لأن التفكير في التشريع لصياغة منظومة من القوانين الاقتصادية أياً كان توجهه وأدواته المستخدمة فلا بد أن غايته هي خدمة جماعة ما من الناس ومساعدتهم في تحسين معيشتهم وانتشالهم من الفقر والمعاناة بما يضمن لهم حياة بعيدة عن المعاناة والتساوي في ذلك مع أهل المال والأعمال وبطرق مشروعة يوفرها ذلك النظام بلوائحه وتشريعاته التنظيمية ولا فرق في عدد هذه الجماعة من الناس، سواء أكانوا قلة أو كثرة.
حين نتأمل نتائج مشاريع الابتكار وحصاد هذا الحقل الذي يمثل أهم مورد من موارد اقتصاد المعرفة وأين موقع الفئات العاملة قبل استحداث الابتكار الاقتصادي الجديد، وهل استوعبت هذه الابتكارات هذه الفئات الفقيرة بطبيعة الحال في مضامين تلك الابتكارات، أم أن هذه الابتكارات لم تمثل سوى حالة من النرجسية التي ستعادل في سجل ملامح الاقتصادات البشرية بكل عصورها أحلك النتائج وأكثرها فتكا بالطبقات الكادحة والفقيرة رغم أن وسائل هذا النظام وموارده كانت في جميع مظاهرها مغرية جداً لتوقعات أكثر احتراماً لطموحات هذه الفئات التي لم تستطع الأنظمة السابقة تحقيقها لها ربما لعدم وجود هذه الوسائل والموارد أو أن سبباً آخر قد يكون ابتعاد مراكز تطوير الابتكارات وصناعتها «الحاضنات الابتكارية» عن المراكز والمؤسسات التي لها اتصال مباشر وحيوي مع الفئات العاملة يفهم تفاصيل احتياجاتها بشكل كامل وفي اعتباراتها كتصور مطلق أنه لا يمكن في أي حال من الأحوال الاستغناء عنها في حال لو تم إنتاج تلك الابتكارات من خلال هذه المراكز والمؤسسات وباتصال مباشر معها بما يمثل كياناً وجسداً واحداً يفهم احتياجات كل عضو فيه أي بطريقة تكون فيها هذه الفئات شريكة في الفكرة وشريكة في نتائجها ولها دور في مرحلة ما بعد إنتاج الابتكار في جميع تفاصيل مهمته بما يضمن عدم إقصائها وتفريغها من عملها.
وبالتراكم المستمر في تكريس عصر المعرفة من أجل مهمة الأتمتة لن يمر سوى وقت قليل لتكون النتائج انهياراً كاملاً في منظومة القيم الاجتماعية وازدهار الجريمة نتيجة للبطالة التي توفرها عملية الأتمتة وبشكل أكبر مما كانت تفعله وتتسبب فيه أيادي الفساد في عصور الاقتصاد السابقة.
في سياق آخر نجد أن ثمة أسباباً أخرى أدت إلى ضرورة البحث عن حلول بديلة للأنظمة الاقتصادية السابقة وتتمثل في ضرورة استبدال موارد الطاقة من خلال الابتعاد عن موارد ما تحت الأرض والاتجاه إلى الاستثمار في موارد ما فوق الأرض.
وتتجسد مظاهر هذه الثورة في ما نلمسه اليوم من الجهود البحثية والتطورات الابتكارية في قطاعات الطاقة البديلة، لكن لو أردنا أن نذهب إلى استشراف بخصوص هذه الموارد أي حالها مستقبلاً وماذا ستمثل في عصر ما بعد الذكاء الاصطناعي فهذا ما يفترض أن يكون مستقلاً في مقال قادم يتناول التفاصيل بشكل أوسع. وللحديث بقية.