ثمة ثلاثة مساقات للشبكات العنكبوتية تبدأ من العام وتنتهي بالأكثر خصوصية، والمساق الأول هو مساق الشبكات العامة، وهي ما يستخدمه عامة الناس، ويتضمن كل شبكات التواصل الاجتماعية والمواقع المتخصصة بكل أنواعها، والمساق الثاني هو الشبكات الخاصة، ويتضمن مواقع المؤسسات البحثية والعلمية والمؤسسية، وفي العادة يشترط الولوج إلى مثل هذه الشبكات الإذن من الأدمن الخاص بها، أو أن يكون المرء عضواً في إحدى المؤسسات العلمية والبحثية، وأما المساق الثالث فهو مساق الشبكات المظلمة أو ما يسمى بـ «Dark Web»، وهذه الشبكات تتضمن عوالم العملات المشفرة وعوالم الهاكرز، وليس لأحد القدرة على الدخول إليها إلا إن كان ينتمي إلى تلك الفئات التي تختص بمثل هذه الشبكات، أما غير ذلك فمن المحال عليه القدرة على ذلك.
ولعل القول بأن الوضع في ظل غياب الحوكمة في المساقات الثلاثة يشبه أن يعيش المرء في غابة عنكبوتية مفترضة، فلا لوائح تضبط الاختلالات الحاصلة وتحكم الفساد الموجود في هذه الشبكات بكل أنواعه، وحتى يتحقق ذلك سيكون العالم حينها قد تداعى إلى هوة الاستلاب، وسيستمر الانهيار رويداً رويداً حتى تعم الأمراض الاجتماعية بكل أنواعها وتتفشى بما هو أكثر رعباً من الواقع، ولا سبيل من ثمل علاجها، فمعاول الهدم أسرع وأقوى من معاول البناء كما يقال في الأمثال.
إن هذا العالم الافتراضي وهذه الشبكات العنكبوتية في ظل غياب الحوكمة أشبه بدار كبيرة، لكنها بلا أبواب خشبية أو حديدية أو شبابيك من أي نوع كان، إنها غابة حين غابت عنها مظاهر الحوكمة من مراكز الشرطة والأمن، ومباني النيابات، ودور القضاء، فالأقوياء هنا يسحقون الضعفاء ويمرون عليهم، والبقاء هنا لهؤلاء فقط دون غيرهم، أما المستضعفون فلا عزاء لهم ولا أنبياء يصطبرون بكلماتهم وحكمهم فيما يلاقونه في هذه الغابة الافتراضية.
إن الصورة التي تصف مشهد التحولات الجديدة وهذه الغابة العنكبوتية هي صورة سوريالية قد نلمس فيها إبداعاً مدهشاً، لكن لا يمكن لأحد أن يفهمه أو يدعي ذلك، وليس من خيار تجاهها سوى تأطير هذه اللوحة للحصول على معنى أي بالمعنى الواقعي الذي نرمز بها إليه حوكمتها ووضع قوانين مناسبة لها تضمن للجميع حقوقاً وتلزم الجميع في الوقت ذاته بواجباتهم، لكن من دون الشعور الذي يشعر الجميع به الآن «التيه والضياع».
وكما يبدو فإن الحديث عن حوكمة شمولية للعالم الرقمي والشبكات العنكبوتية هو حديث صعب، على الأقل، في الوقت الراهن، ومتشعب نوعاً ما، والأهم أنه سيكون بلا طائل، لكن يمكن الحديث بدلاً من ذلك عن قوننة أسواق العملات المشفرة أولاً ثم السعي إلى وضع لوائح تنظيمية لعوالم التواصل الاجتماعي، والتشديد على موضوع الملكية الفكرية كثيراً في سياق العمليات البحثية والفكرية وما يتبعها من مؤسسات، ثم شيئاً فشيئاً سيكون هنالك جدوى للحديث حول حوكمة الشبكات العنكبوتية نظراً لإمكانية تحقق ذلك واستيعاب الواقع له. وللحديث بقية.