تنبأت في مقالات عدة سابقة بمرحلة سميتها ما بعد اقتصاد المعرفة وكانت ملامح هذه المرحلة بالنسبة لي، على الأقل، كوني أدير شركة متخصصة في جزء من سياقات عملها بالرصد والإحصاء والتحليل للبيانات والقياس، لكن الصعوبة التي يمكن الإفصاح عنها كانت في تحديد زمن تلك المرحلة التي استشرفتها، وموعد العيش في تفاصيلها وكيفية الانتقال والتحول إليها وأيضاً أسباب ذلك التحول والانتقال إليها. ولعل الوقت قد حان للإجابة على تلك الاستفهامات «متى ولماذا وكيف» والتي لم تتضمنها عملية الاستشراف تلك.
نفهم جيداً أن أي نظام يرتهن إليه العالم في تسيير شؤونه وتدبير أحواله تشبه عملية الانتقال والتحول إليه عملية الانتقال والتحول من نظام حكم وسيادة إلى نظام حكم وسيادة آخر بذات تفاصيل منح مقاليد الحكم والسيادة مع كل دورة حكم ونظام جديدة، وأياً كان نوع ذلك النظام زراعياً أو صناعياً أو اشتراكياً أو رأسمالياً أو معرفياً أو ما بعد ذلك.
والنظر في تفاصيل كل عملية تحول وانتقال بين هذه الأنظمة يقول إنها عملية لم تتم بشكل ديمقراطي كما يحدث عادة في التحولات على مستوى بعض الدول ولم توهب السلطة لأي من تلك الأنظمة طواعية واختيارياً بل كانت انتزاعاً.
ويمكن رؤية ذلك بوضوح في آخر عملية تحول بين النظام الرأسمالي والنظام المعرفي حيث سبق عملية التحول والانتقال أزمة اقتصادية عالمية كبرى تسببت في انتزاع السلطة من أيدي نظام الشركات والمكاتب وتسليمها للنظام المعرفي وتم تنصيبه من ثم ليسود في العالم كما تم تسخير كل الموارد من أجل تلبية احتياجاته وخدمة مظاهره وبلا تحفظ، لولا أن الغاية لم تكن على قدر كبير من الوضوح ما يجعل النظام المعرفي في هذا التوقيت والمرحلة محرجاً جداً، خصوصاً فيما يتعلق بمواجهة فيروس «كورونا» والتصدي له، والذي يعد أول تجربة واختباراً حقيقياً للنظام المعرفي وامتحان جدية ومصداقية مزاعمه.
لا أريد أن يكون ما أقوله هنا هو ما يردده الكتاب والشعراء من وصف للظاهرة وهو ما تمتلئ به صفحات وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي كما ولا أريد أن أقدم تحليلاً فلسفياً يصف ما وراء الظاهرة وأسبابها وقد يخطئ وقد يصيب، لكن ما أريد قوله هنا هو كتابة استشراف متخصص مبني على قياس متعلم مشهود له ويملك الكثير والكثير من الامتيازات.
إننا أمام خيارين لا ثالث لهما، الأول هو استدعاء كل الأخطاء والتجاوزات التي تتعارض مع غايات ومبادئ النظام المعرفي وتصحيحها بالكامل وسد كل الثغرات وتحديث منظومة هذا النظام وتفعيل ما لم يكن مفعلاً من قبل وتم تأجيل تفعيله إلى المستقبل لأسباب تتعلق بعدم وجود مخاطر توجب ذلك، ولنأخذ مثالاً على ذلك وهو أن كل وسائل ومظاهر التكنولوجيا وعلى رأسها خدمة الإنترنت والذكاء الاصطناعي استخدمت بعيداً عن ما يفرضه النظام المعرفي من أهداف وغايات إذ يفترض أن هذه الأدوات التكنولوجية وسائل وجدت من أجل أن تستخدم في خدمة الرأسمال الذي يقوم عليه النظام المعرفي وهو البحث العلمي وتمكين التواصل بين الباحثين في العالم وتبادل الأبحاث دون الأخذ بصعوبات الحصول على المعلومات الذي كانت تفرضه الأنظمة التقليدية السابقة وتلك الاستخدامات المتجاوزة لغايات النظام المعرفي هي استخدامات تجارية في معظمها.
أما الخيار الثاني فهو إيجاد نظام بديل للنظام المعرفي لكن هذا يجعلنا نقول قول الألماني ديكارت: «فاقد الشيء لا يعطيه» ولأجل ذلك فإن عصر ما بعد النظام المعرفي أو العصر الاقتصادي الخامس سيكون هو ذاته النظام المعرفي ولكن بآليات جديدة وملامح واضحة ومكتملة في تفاصيلها وتكويناتها فتكون الصورة الجديدة لهذا النظام هي ذاتها رؤيتنا لشجرة كاملة وليس كما رؤيتنا السابقة وهي جزء من الشجرة فقط وهي رؤية ما قبل Covid 19.
وبالحديث في ختام هذا المثال عن فيروس «كورونا» الذي كان صفعة في وجه النظام المعرفي ربما ليستيقظ من غفلته التي تسببت نجاحات التكنولوجيا التجارية اليومية له بها وسنجد أن مهمة النظام المعرفي أمام فيروس «كورونا» تختلف عن بقية الأنظمة التقليدية السابقة والحجة عليه أكبر بكثير جدا حيث لو واجه العالم فيروس «كورونا» في أي عصر سابق غير عصر النظام المعرفي فلن يكون على ذلك النظام لوم لأن رأسماله في العادة يقوم على المال أما النظام المعرفي فرأسماله يقوم على البحث العلمي والمعرفة والإبداع الإنساني والإمكانيات البشرية، وقد تم تسخير كل الموارد من أجل ذلك ولذلك فاللوم أكبر هنا والفشل أعمق والمسؤولية مباشرة وعظيمة ويبقى سؤال أخير في نهاية هذا المقال وهو: أين هو موقع البحث العلمي العربي في الجملة الخيرية للنظام المعرفي، وهل يمكن أن نجد له دوراً يمكن التعويل عليه في مواجهة فيروس «كورونا» وتداعياته؟
لتكن الإجابة على هذا السؤال موضوع المقال القادم. وللحديث بقية.