لقد كانت مغامرةً كبرى تلك التي جعلت العالم يخوض تجربة ويعيش فعالية لم يتعلم العيش فيها من قبل.
لم يسبق للتكنولوجيا منذ بدايات ظهورها حتى أزمة مطلع عام 2020م أن تشهد ازدهاراً كما شهدته في زمن أزمة «كورونا»، لكن الحديث أيضاً عن تجربة التكنولوجيا منذ بداياتها وحتى هذه المرحلة التي ازدادت بها انتعاشاً هو حديث ذو شجون.
التكنولوجيا أداة الثورة الاقتصادية الرابعة «اقتصاد المعرفة»، وقد فرضت هذه التجربة على البشر من الجرأة في خوضها ما يفرضه الخطر على الجاهل من مغامرة لو عرف مضامينها لما تجرأ على فعل المغامرة تلك.
خلقت التكنولوجيا عديد الوسائل والأدوات، واستطاعت أن تحول أحد الأبعاد الإنسانية إلى بعد افتراضي يناسب مخرجاتها، ولعل العالم في زمن «كورونا» قد اتجه بكل أبعاده نحو تجربة البعد الافتراضي الواحد ليتدفق من خلاله في العديد من الأبعاد لولا أنه تدفق افتراضي، وهي عملية لا تختلف عما فرضه اقتصاد النفط على العالم، فبدلاً من أن يتوافق مع ثقافات الشعوب صاغ هذه الشعوب لتتطوع وتتكيف بثقافاتها تماشياً مع معطياته وأسبابه.
قد نجد على سبيل المثال أن وسائل التكنولوجيا قد خلقت نماذج وأشكال وظيفية جديدة تشمل معظم المؤسسات في المجتمع ومكونات الدولة.
ومن ذلك وظيفة الإعلام التي انتقلت من مكانها داخل أروقة المؤسسة الإعلامية إلى دهاليز التكنولوجيا ووسائلها، فأصبح المواطن هو الصحافي والإعلامي، وهو السياسي، وهو الاقتصادي، وهو رجل الدين، وهو الوصي على كل مختلف عنه بحاجة إلى الوصاية، حيث يمارس الدور نفسه الذي يمارسه أولئك جميعاً، وبلا حدود.
لقد كان افتقار مجتمعات العالم الثالث إلى بنية ثقافية صلبة ووعي حضاري وعلمي سبباً كافياً جعل هذه الأداة تنحو نحو مسارها الثاني، وهو مسار خدمة المصلحة الشخصية وخدمة رغبة العبث واللهو والاستهانة والاستهتار وعدم الجدية إلى أبعد حد.
لأن طبيعة الأداة تلك كان دائماً يفترض أنها سلاح ذو حدين، إما خدمة الخير وإما خدمة الشر، ولعدم وجود أرضية واعية تقوم عليها الممارسة التكنولوجية عموماً، فإنها بالتالي تتجه نحو المنحى الثاني وهو منحى الشر وخدمته، بقصد أو بدون قصد. بعلم أو بدون علم.
أو لعل الجهل قد فرض عليها خلق مسار ثالث لا هو الشر ولا هو الخير، بل هو العبث، وخدمة كائنات لا حصر لها كل ما تجيده هو التخلف واللامعنى في ممارستها التكنولوجية، وهذا ما نجده من كل يوم. أي أنها خلقت بتلك الممارسة كائناً مشوهاً مسخاً يستطيع من لا حظ أدنى له من المعرفة أن يلمسه بوضوح، فيما يجده من ملامح لهذه الكائنات في كل عوالم التكنولوجيا بلا استثناء أو حصر.
لقد كان هدف وسائل التكنولوجيا، والحديث حالياً عن ظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي «السوشل ميديا»، هو خدمة المعرفة والتعلم، أولاً، ثم بعد دخولها حقل الممارسة الاستثمارية والتنافسية الربحية تحولت إلى أداة بمسمى اجتماعي.
لكن ونتيجة لفهم مغلوط تم توظيف هذه الوسائل بشكل بعيد جداً عن سياق الغاية الأولى والثانية، فأصبحت وسيلة للتباغض وبث سموم الكراهية ونشر الشائعات بدلاً من الممارسة الهادفة والخلاقة وأصبحت أيضاً في خدمة التوجهات التي ينتمي إليها عادة مشتركو هذه الوسائل ومرتادو عوالم الإنترنت.
لقد قامت التكنولوجيا في أزمة «كورونا» بإعادة صياغة العالم، وأعادت تصميم دنيا البشر التي يحيون فيها، كما لم يستطع البشر أنفسهم بأن يفعلوا ذلك في أي وقت مضى من قبل. وللحديث بقية..
* خبيرة الاقتصاد المعرفي