ازدهرت الكثير من الصناعات والمنتجات المعرفية في زمن وباء «كورونا» الذي اجتاح العالم، والملاحظ أن ازدهار هذه المنتجات يتم على أساس مجانيتها وعروضها التي لا تشترط أي فوائد مادية، ولا ترجو أي ربحية فيما تقدمه.
والجدير قوله إن هذه الصناعات والمنتجات المعرفية كانت باهظة القيمة في سابق عهدها ليس فقط القيمة المادية ولكن أيضاً القيمة المعنوية، لولا أن دافعها في مجانيتها في زمن «كورونا» يعود لسببين رئيسيين الأول هو حرص هذه المؤسسات المنتجة للمعرفة على عدم الخسارة لجماهيرها التي طالت معظم المنتجات المعرفية وأصابت الكثير من المؤسسات في مقتل.
وأيضاً حتى تحافظ هذه المؤسسات على ريادتها وجمهورها السابقين، فالتحول نحو المجانية فيما تقدمه هو الحل الضامن لبقاء الحال على ما كان عليه سابقاً حتى تعود الأمور لما كانت عليه في السابق. والسبب الآخر هو تحول العالم نحو اكتساب المعرفة بالطرق الافتراضية نظراً لما تفرضه الأزمة الحالية من تحولات، ولذلك فلا بد من مواكبة ذلك والريادة فيه أيضاً عن طريق المجانية في المنتج المعرفي الذي تقدمه تلك المؤسسات والهيئات لكن هل هذا هو ما يجب الحديث عنه حالياً؟
إن ما يجب النظر إليه والحديث عنه ليس أسباب التحول نحو الإنتاج الافتراضي (عن بُعد) واكتساب الناس للمعارف بالنهج الذي يرسمه هذا التحول، بل النظر والبحث في جودة هذه المنتجات المعرفية التي تقدم للمجتمعات في العالم بمجانية وهل ثمة معايير تحكمها؟!
إن مفهوم الجبنة المجانية لا يمكن أن نجده إلا في مصيدة الفئران، كما هو مفهوم، وكما يبدو فالعالم، حالياً، في وضع «متورط» في مصيدة هذه المؤسسات الصانعة والمنتجة للمعرفة، وكما يبدو فإن الإغراء الكبير للعالم كامن في المجانية التي أضفيت سماتها على معظم المنتجات والصناعات المعرفية التي ظهرت في زمن «كورونا» حتى ولو كان الادعاء أن تلك المؤسسات المنتجة للمعرفة تقدم المجانية بدعوى الحرص على عدم خسارتها لجماهيرها وحفاظها على موقع الريادة والمواكبة للمتغيرات الحاصلة بسبب وباء «كورونا» أو حتى بدعوى تعطل أعمال الناس ووظائفهم وتعطل سير العملية التعليمية في العالم بأسره ولا بد من سد الفجوة الحاصلة لأن الجودة في المنتج هي ما يحدد عظمة الفعل الذي تقوم به هذه المؤسسات المنتجة للمعرفة وليس الأسباب التي أدت لهذه المجانية في المنتج.
إن المؤسف فعلاً هو عدم وجود مؤسسات رقابية حقيقية على جودة المنتجات المعرفية المقدمة في العالم الافتراضي وعدم وجود معايير يحتكم إليها الناس لتقييم جودة هذه المنتجات والصناعات المعرفية التي يستهلكونها ويقبلون عليها بدعوى مجانيتها وسهولة الوصول إليها لأن الواقع الفعلي لعملية الاستهلاك لهذه المنتجات يقول إنها تسعى لتسطيح الوعي والمعرفة إذا استمرت بهذا الشكل الذي نراه حالياً، وليس من أجل الارتقاء بالعملية المعرفية بشقيها المنتج والمستهلك. ولا يختلف الأمر عن منتجات المؤسسات الإعلامية التي يضج فضاء التواصل الاجتماعي في هذه الفترة بالشكوى من رداءتها وسطحيتها.
وكما يبدو فإن عملية إنتاج المعرفة واستهلاكها في زمن وباء «كورونا» تسير وفقاً لما وصفه الكاتب «مايك ريغان»: حين قال «قلائل هم الذين يشربون من نبع المعرفة.. الغالبية يتغرغرون بها فقط».
وللحديث بقية.
* مستشارة الاقتصاد المعرفي