عندما أدرك العالم أن جائحة «كورونا» لم تكن مجرد أزمة عابرة، وأنها ذات تأثير عميق ومستدام على الاقتصاد، شرعت حكومات كل البلدان في وضع «تصوّر» لإطلاق مخططات استثمارية، لم تكن في النهاية مبنية على رؤى واقعية، لأننا أجمعنا في كل هذه المخططات، على إخراج مشاريع ظلت حبراً على ورق في كل البلدان، بما في ذلك المخطط الأوروبي والمخطط الفرنسي، والبعض ذهب إلى تنمية قطاعات ليست ذات صلة، لخطأ التحليل حول ما يجب وما لا يجب، حول ما يتعلق وحول ما لا يتعلق، من خلال العديد من الإجراءات، التي ظلت في معظمها، عديمة الجدوى تجاه الإشكالات الحقيقية التي يطرحها «كوفيد 19»، ذلك أن خطط الإنعاش هذه، كان يجب أن تتوجه جميعاً إلى تنمية القطاعات المهمة ذات الصلة التي كشفت الموجة الأولى من «كوفيد 19» عن أوجه قصورها، وهي القطاعات التي تشكل ما اصطلح عليه «اقتصاد الحياة»، وتتمثل هذه القطاعات في: صناعة الأدوية، التجهيزات الطبية، رقمنة التعليم، النظافة، التغذية السليمة، الماء، الطاقة النظيفة، التأمين، الإعلام، الأمن، التكوين المهني (بالخصوص تكوين العمال الذين سينفذون هذه الاستثمارات).
وتمثل تلك القطاعات التي يعبر عنها إجمالاً بـ«اقتصاد الحياة» أهم الأولويات التي يفترض الانتباه إلى تنميتها بشكل عاجل، لأن تحقق المقاومة فيما تبقى من الموجة الأولى وخلال الموجة الثانية، سيكون معتمداً من خلالها على القدرة على الثبات والمكافحة والتصدي، إنها تمثل قارب النجاة الذي من المنوط به أن ينقذ البشرية، إنها عصا موسى وسفينة نوح ومعجزة المسيح، ورغم ذلك، فلا شيء يذكر من التدابير اللازم أجراءها لتشجيع «اقتصاد الحياة» الذي يشكل مجالاً جذاباً وغير مكلف لولا أنه مهمل كلياً، وفي حين تأكدت الموجة الثانية من جائحة «كوفيد 19»، سندرك افتقارنا الشديد لما كان يجب أن ينتجه اقتصاد الحياة خلال الموجة الأولى، حيث المدارس مغلقة، والتلاميذ في حجر صحي من جديد، وسندرك أنه كان من الأنسب طلب الحواسيب للأساتذة والتلاميذ، وإعداد الدروس الضرورية خلال الصيف، كما أننا سنعي أنه لا يجب فقط عزل البنايات، بل يجب أيضاً السماح لكل واحد بامتلاك غرفة للعمل عن بُعد، وفي انتظار ذلك يجب تحويل جزء هام من الفنادق إلى أماكن للعمل عن بعد، والكثير من الأشياء الأخرى.
وقد أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم على أهمية الاقتصاد والصحة، حيث قال إن «السياسة هي العربة والاقتصاد هو الحصان الذي يجرها» كما أكد أن «الصحة هي الحصان الذي يجر عربة الاقتصاد والسياسة معاً»، وهنا نؤكد أن اقتصاد الحياة يستوعب كل تلك الأشكال من طب وبيئة وأولويات هامة. كما تضيف كلمة الحياة إلى الاقتصاد تعبيراً عن الحقيقة التي يفترض الانتباه إليها، قبل أن تتمادى هذه الجائحة بالعالم في موجتها الثانية إن تأكدت، أكثر مما فعلته في موجتها الأولى.
إن المشكل الذي وقعنا فيه أننا ذهبنا إلى معالجة أزمة القرن الواحد والعشرين، بأدوات ووسائل اقترنت ببدايات القرن العشرين، ناسين معطيات الحضارة وأسبابها، التي نعيش فيها، أي أننا نعيش في المستقبل ونستخدم أدوات الماضي مع أهم ما واجهنا من أزمات، نعم فلقد مارسنا التحضر مع كل المعطيات القديمة، وقمنا بتحديثها إلى مع هذه الفعالية التي لم نتعلم للعيش فيها والتعاطي معها، فانصرفنا إلى أدوات الماضي وخططه ووسائله لنثبت من ثم عجزنا التام وفاقد الشيء كما يقول الفلاسفة لا يعطيه.
ولعل ثمة سؤالاً سيواجه المؤرخين ويؤرقهم ذات يوم، وهو حول سبب ارتباك جل الحكومات تجاه هذه الأحداث، وعن كيفية ارتكابها هذا الخطأ التحليلي، ولماذا انصرفت إلى الماضي واستحضرت خططه وأدواته ووسائله للتعامل مع الجائحة، ولماذا لم تستخدم أدوات الحاضر أو تذهب إلى المستقبل واستدعت شيئاً مما يخصه في وسائل المعالجة؟! وللحديث بقية.
* خبيرة اقتصاد معرفي