جديرٌ بنا قبل الحديث عن الابتكار ومحاولة قراءة المقال الشهير لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد «الحكومات بين الابتكار والاندثار» الاستهلال بقول سموه: «الحكومات المبتكرة هي حكومات جاذبة للمواهب، فعّالة في الأداء، متجددة في الأنظمة والسياسات والخدمات.
الحكومات المبتكرة هي القاطرة الأساسية لنهضة الشعوب وتقدّم الدول وارتفاع شأنها. الحكومات المبتكرة تطلق طاقات الشعوب، وترفع من قيمة عقل الإنسان، وتحقق الحكمة الربانية في أن نكون خلفاء الله في أرضه».
نتفق على أن لكل عصر سماته، ويمكن التأكيد أننا نعيش عصر الحاضنات الابتكارية بامتياز، فالمؤسسات الحكومية تحررت من مركزياتها، ولم تعد أولوياتها مقدسة تسبق مصالح الأفراد، بل إنها دخلت عالم المنافسة مع القطاع الخاص، وصارت مهمتها رعاية حاضنات الابتكار، كظاهرة حديثة في جميع أنحاء العالم، وصارت وظيفتها أقرب إلى مؤسسات إنتاج المعارف (مؤسسات تعتمد على البحوث) كالجامعات أو غيرها من مراكز التميز الحكومية، وتهدف إلى توجيه المعرفة المتولدة نحو تطبيق نتائج الابتكار، من أجل تحفيز الأنشطة الإقليمية للارتقاء بالنمو الاقتصادي الوطني.
وهذا ذاته ما تؤكده المقالة، فيقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد إن «سر تجدد الحياة وتطور الحضارة وتقدم البشرية هو في كلمة واحدة: الابتكار»
إن التأمل بتمعن في هذه المقولة يكشف أن الابتكار يعدُّ، وفق كل المقاييس، مفتاحا للنجاح في المستقبل، في كافة المجالات التنموية، وعليه يتوجب على كل القطاعات توفير أرضية مناسبة للحفاظ على الميزة التنافسية، فمن الضروري توفير الرعاية لبيئة الابتكار، والمديرون التنفيذيون يلزمهم الابتعاد عن الطرق التقليدية للتفكير، واستخدام التغيير الحاصل لصالح المؤسسات التي يديرونها، لأن منعطفاً كهذا سيؤدي إلى تغييرات جذرية في كل المجالات، وبالتالي فإنه يقدم كذلك فرصة أكبر للتميز والريادة، بما يحتويه من تغييرات شاملة للعمل مع أدوات التكنولوجيا ووسائلها، وهذا سيشمل المؤسسات الحكومية والمؤسسات الخاصة على السواء، وستشهد نتيجة للتغيير الحاصل في العالم، تنافساً ملموساً وعلى نحو متزايد، وسيتعين عليها تقليص حجم عملياتها نتيجة لتكنولوجيا الروبوت، وإعادة تصميمها بما تتطلبه التكنولوجيات الحديثة، لتظل قادرة على المنافسة، وسيؤثر ذلك على العمالة، وهو ما تطرقنا إليه في مقالات سابقة، حيث ستضطر الشركات إلى تقليص عدد الأشخاص الذين يعملون لديها في الوقت الذي تنجز فيه نفس كمية العمل إن لم تكن أكثر، ومع ذلك فهناك مجموعة من القيم مهمتها الحفاظ على النسيج الاجتماعي، والذي يشمل كافة مجالات الحياة والتنمية.
إن أهم ميزة ترافق الابتكار وطبيعة تكوينه، هي أنه، وعلى مر التاريخ، لم يكن ليوجد بدون بدايات خيالية يأتي مستندا عليها، وكان الابتكار الذي لا يسبقه الخيال، أو يأتي بمعيته، ابتكاراً مشكوكاً فيه، وكانت دائماً أعمق حاجات الإنسان هي الإبداع والابتكار، فالذهن الذي يحفظ أو ينقل أو يقلد يصاب بالشلل إن فقد ماهيته أن يبدع، يتخيل، يبتكر، ويصيّر.
لقد التفت إلى موضوع الخيال الذي يقدم للابتكار أعظم الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ، من ذلك قول جلال الدين الرومي أنه «لا يوجد في العالم خيال دون حقيقة» فكان كأنه بقوله يهمس في أذن آينشتاين قبل مئات السنين وهو يقول «إن الخيال أكثر أهمية من المعرفة، فهو يحيط بالعالم» وتأكيده أن «الحقيقة محض خيال رغم إمكانية استمرارها» وقد قال ريتشارد فاغنر «إن ما يبدع ويبتكر ليس قوة الإرادة، بل الخيال والفانتازيا؛ فالخيال هو القوة الإبداعية، وهو ما يبتكر الحقيقة» لأن الخيال هو الذي يكشف ما تخفيه الحقيقة، وهو ما يحكم العالم على حد تعبير نابليون، بل هو أيضا البساط السحري الحقيقي.
ونعود إلى موضوعنا لنؤكد أن وضع الحكومات، فيما يخص الابتكار، ليس سوى امتداد للفرد وبيئته في المجتمع، والعكس صحيح بالضرورة أيضاً، وقد أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ذلك في مقالهِ بالقول «عندما تكون الحكومات مبتكرة فإن بيئة الدولة تكون كلها مبتكرة، وعندما تشجع البيئة على الإبداع والابتكار تنطلق طاقات الناس نحو آفاق جديدة، وتتفق مواهبهم، ويصبح تحقيق أحلامهم وطموحاتهم ممكناً، وهذا أحد أسرار نجاح الدول التي تشجع شعوبها على الابتكار» وأضيف قوله: «وفي العالم الذي نعيش فيه اليوم، الذي أصبحت فيه حركة العقول والمواهب والمعلومات مفتوحة كما لم يحدث في تاريخ البشرية من قبل، أصبحت مدن العالم المختلفة تتنافس لتوفير البيئة الأذكى والأكثر إبداعاً لاستقطاب هذه المواهب والاستفادة منها لبناء قوتها وتميّزها وزيادة تنافسيتها.»
أخيراً يمكن الخروج بفلسفة عظيمة، من مقالة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، مفادها أن الذهن الذي يعجز عن الابتكار يفقد قدرته على إعادة تصميم نفسه ودنياه التي يحيا فيها، وكل ذهن فقد قدرته على أن يعيد تصميم عالمه، سيقوم غيره بتصميمه. وتلك هي أزمة الذهنية العربية التي نعيشها تحديداً «القدرة على الإبداع والابتكار» ولعل مقالة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد تؤكد ذلك بامتياز.
ونختم بقول سموه: «الابتكار هو أن تكون أو لا تكون: أنا حكومة مبتكرة، إذاً أنا حكومة موجودة.» وما أروعها من فلسفة وللحديث بقية.